الحقيقة/كتب/د/مصباح الهمداني
صعدة الروح! (1)
كلما حضر اسمها،هزني الحنين إليها، وكلما حدثني الأحبة عنها، ازددت شوقًا إليها.
قررت زيارتها، وحشرت في حقيبتي بعض ثيابي، وتحركت عصر الأربعاء، وليس معي دليل سوى قلبي الشغوف.
لا أعرف الطريق،لكن السائل يصل.
خرجت من صنعاء، ووصلت عمران، وبدأت عصافير السعادة، تحط على شجرة قلبي. مررت بخمِر وحوث، وحرف سفيان.
الطريق معبد بطريقة جيدة، ولا شيء ينغصه، سوى بعض الحفر النادرة، والمطبات الكثيرة المفاجئة، وانعدام لافتات الطريق الواضحة الفوسفورية، والإرشادية عن أسماء القرى والأسواق.
كان الجنود في النقاط، على درجة عالية من الانضباط، وعلى محياهم ابتسامات دافئة، وما إن اقتربت من صعدة، حتى أصبحت النقاط أكثر حزما وأسئلة(من أين أتيت؟وأين تقصد؟ ولماذا؟ وافتح شنطة السيارة)وفي كل مرة أجيبهم بكل محبة واطمئنان، وأقدر جهدهم وحرصهم، إلا أني سألتهم في واحدة منها: (لم تفتشون بهذه التفاصيل؟ )فأخذ أحدهم يشرح لي مخاطر الأمر وأهميته، بعدما استوقفتني على كتف الطريق.وكانت تلك آخر نقطة في العشة.
انشرح صدري فوق انشراحه، ومع ظلام الليل، بدأ مؤشر البنزين، يعلن عطشه الشديد، ووجدت أزمة البترول ذاتها، وبعد بحث سريع، وجدت ضالتي، في سوق العند، واشتريت دبة بترول بثلاثة وعشرين ألف ريال.
أنا في صعدة الروح، هواؤها مختلف، نسائمها متفردة، أجواؤها عليلة. وجدت فندقا جيدا، على خط الطلح.
كان هدفي الأول زيارة مران، والسلام على مؤسس الأركان، إلا أن كل الذين سألتهم في الليل والصباح، أفادوا بأن الطريق شاق وخطر، وربما مغلق حاليا.
صدمني الخبر، فقررت زيارة والد القائد، علها تشبع شيئا في داخلي يصعب وصفه.
وفي الصباح سلكت طريق ضحيان، حيث يرقد العلامة الحجة بدر الدين بن أمير الدين الحوثي سلام الله عليه، وصلت المكان، إلا أن الشوارع الضيقة، حالت بيني وبين الوصول بالسيارة، فأوقفتها على مقربة، وترجلتُ نحو المرقد الشريف، دلفتُ الباب، فاستقبلتني روحانية المكان، وروح العرفان، المزينة بشجيرات الورود والأزهار، وحضور ثلة من الزائرين، جددت وضوئي، وهبطتُ بجوار المرقد الشريف، لاثما لحوافه، وقرأت الزيارة بقلب فرح باك، وأخذت شالي أمسح به زجاج الضريح، واستنشق عبير المكان، وأسرح في سيرة البدر، وأسير معه، لأجد حياته من أولها إلى آخرها، علم وجهاد، وبصر وبصيرة، ونور ومنارة. دعوت الله بكل ما في قلبي لي وللمؤمنين، ورجوته أن يشفع لي، وكأني رأيت ابتسامته تملأ قلبي، وتشرح صدري، وتضييء جوانبي…
ودعتُ الإمام المجدد، بروح امتلأت نعيما ورضا…وتحركتُ باتجاه الجعملة، ومنها إلى وادي نشور.
صعدة الروح!(2)
—————–
لم أشأ أن أفارق ضحيان، لما فيها من نسمات روحانية، تملأ أجواء المكان، ولما سمعت وقرأت عنها، بأنها حاضنة العلم وميلاد العلوم، لكن الوقتَ لا ينتظر.
ملأت صدري من نسائمها، وخبأت في قلبي عظيم الامتنان لها، وألقيتُ نظرة وداع وحنين، لمقام معراج القانتين، ومنارة الأعلام العاملين، وسلكت الطريق إلى الجعملة، ومع أن بيوتًا كثيرة مهدمة، تشُد بصري إليها، وتستحثني أن أكتب عنها، لكني أجَّلت الأمر، واستعجلتُ اللقاء بأولي الأمر…
سألتُ أكثر من مرة، عن روضة الشهداء في الجعملة، وكل واحد يجيبُ باهتمام، حتى وصلت بسلام، ودلفت الروضة، وكانت أجمل الروضات، تنسيقا وتنظيما، سلمتُ على الأبطال العظماء، وطفتُ بقصورهم الخضراء، قصرا قصرا، وأنا أبحثُ عن بطلٍ بعينه، لم أجده، لكني وجدته في كل وجهٍ من تلك الوجوه العظيمة، أجريتُ اتصالاتي بإخوتي، فأكدوا أنه في قلب الروضة، ناديته باسمه، وكأنهم جميعا ردوا. الروضة ممتلئة بأطهر أهل الأرض، وأنبل سكان العالم.قرأت لنفسي في حضرتهم، آيات الرحمن، ودعاء الزيارة، ودعوت لكل المؤمنين بالنصر والتمكين..وودعت الروضة، وما أود وداعها.
وتابعتُ طريقي باتجاه وادي نشور، والدرب إليها سهل وميسور، وبعد أن لاحت لوحة الروضة، انعطفتُ يسارًا، وإذا بها تربض بين أطيان مزروعة، وبجوارها بئر عامرة. خَطوت نحو العظماء، وإذا بالبطل المنشود، ينظر إلي كأول صورة تقع عليها عيني، أسرعتُ نحوه،
أحتضنه وأقبله، وأمسح الغبار عن جبينه الوضاء، وأتذكر خُلقه وعلمه وتقواه، ويسيل دمعي حارًا، وكأني أسمع عتابه على تأخري في زيارته.كان تقيا نقيا عظيما في حياته، وبطلا أسطوريا حتى استشهاده، ومن أولياء الحرب الثانية.أمسكت به وأنا أرجوه ألا ينساني من نعيم المنعم، ثم اتجهت إلى أحبة آخرين، سطروا بدمائهم الزكية، أعظم نصر في البرية.
وقفت على فوهة البئر، فطار الحمَام من جوفها، ثم استظللت تحت جدار ترابي، أقلب بصري في جبال نشور المكشوفة، وأستعيد تلك الملاحم والبطولات، التي حققها العظماء، على هذه الهضاب المنخفضة، وتوالت الآيات تلو الآيات، حتى تحقق نصر هز الشرق والغرب، ابتدأت بذوره من مران، حتى نشور، إلى بني حشيش، ثم استطال حتى بلغ مبلغا حير أمريكا وأذيالها في المنطقة كلها.
المناخ معتدل، والهواء ساكن، ولا صوت إلا زغردة الطيور، على أشجار السدر المحيطة، ومحطات التأمل والاسترخاء تتوالى تباعا في هذه البقعة.
إلا أن طريق العودة طويل، ولابد من الرحيل.
ودعت قطع القلب المنتشرة، وعدت إلى الفندق ، لتجديد النشاط لزيارة جديدة.