عمليّة توسيع رقعة العمليات وتصعيدها وجعلها أكثر تأثيراً وإيلاماً، ليست مجرد حرب نفسية دعائية، بل إنها استراتيجية وتوجّه فعليّ، وهي عملية كبرى بالمعنى العسكري والاستراتيجي.
يبدو أنَّ صنعاء لن تتوقف عن عملياتها الدفاعية باتجاه العمق السعودي، ولن توقف عمليات التحرير البرية عند تخوم مدينة مأرب، بل ستمضي في ترجمتها العملية لمفاعيل “استراتيجية الدفاع الوطني والتحرير الشامل” التي أعلنها قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي أمام ملايين اليمنيين أثناء إحياء ذكرى استشهاد الإمام زيد في 2 أيلول/سبتمبر.
ما يعزّز ذلك أنَّ عملية الردع السابعة جاءت بعد يومين من الخطاب، وهي عملية كبرى بالمعنى العسكري والاستراتيجي، لناحية السلاح المستخدم ونوعيته (10 طائرات مسيرة، و6 صواريخ باليستية)، ولناحية الأهداف النوعية والمتنوعة ما بين الاقتصادي والحيوي والعسكري.
واللافت أنَّ أرامكو “درة تاج” الاقتصاد السعودي باتت في عين العاصفة اليمنية المرتدة. وهذه المرة، وجهت صنعاء نيرانها باتجاه رأس التنورة في الدمام التي تحتضن إحدى أكبر مصافي النفط في العالم، وميناءين لشحن النفط، ومعملاً للغاز، وآخر لإنتاج الكبريت، وكذلك أول وأكبر محطة كهرباء بخارية في الشرق الأوسط، كما تحتضن في أراضيها حقل القطيف وحقل أبو سعفة.
أما من الناحية الجغرافية، فقد امتد شعاع عملية توازن الردع السابعة من أقصى شرق السعودية إلى أقصى غربها وجنوبها، في دلالةٍ واضحةٍ على قدرة يمنية فائقة على قصف أيِّ هدف ضمن جغرافيا المملكة السعودية الكبيرة، ولم يعد أي هدف بمأمن من نيران اليمنيين، وهذا يعني، بحسب الخبراء، أن أجواء المملكة السعودية باتت مخترقة اختراقاً كبيراً، وأن الدفاعات الجوية الأميركية وغيرها عاجزة عن اعتراض نيران اليمنيين وصدها.
وفي تناغم واضح بين العسكري والسياسي داخل صنعاء حول أفق ما بعد العملية، جددت القوات المسلحة على لسان العميد يحيى سريع تحذير النظام السعودي على وجه الخصوص من “عواقب استمرار عدوانه على اليمن”، وأكّدت أن لصنعاء “الحقّ المشروع في تنفيذ المزيد من العمليات العسكرية”، فيما لوَّح رئيس الفريق المفاوض محمد عبد السلام بأنَّ العمليات الدفاعية قد “تتسع وتكبر وتتصاعد”، كما أبدت الأحزاب السياسية الوطنية دعمهما وتأييدها الكامل لكلِّ عمليات الردع ضد دول العدوان، وأكَّدت أن إدانات واشنطن وغيرها من الدول لن تثني اليمنيين عن “مواصلة الدفاع عن حقه المشروع في الحياة والحرية والكرامة والسيادة”.
عمليّة توسيع رقعة العمليات وتصعيدها وجعلها أكثر تأثيراً وإيلاماً، ليست مجرد حرب نفسية دعائية، بل إنها استراتيجية وتوجّه فعليّ، إذ إنَّ صنعاء تملك القوة والقدرة والقرار، وعلينا أن نتذكر في مثل هذه الأيام من شهر أيلول/سبتمبر 2019م ماذا فعلت في عملية بقيق وخريص المشهورة، التي عطلت نصف إنتاج المملكة في 14 أيلول/سبتمبر 2019م، وشلَّت عملية الإنتاج لفترة طويلة، ما يعني أن هذا الخيار غير مستبعد.
صراع الاستراتيجيّات في اليمن
لا يمكن فصل عملية توازن الردع السابعة عن السياق العام، فقد جاءت في وقت تسعى واشنطن ولندن والرياض وأبو ظبي، ومعهما الأمم المتحدة، ومن بوابة الدبلوماسية، إلى تجميد القصف باتجاه العمق السعودي، وفرملة عمليات التصدي والتحرير التي تخوضها صنعاء على تخوم مدينة مأرب، وفي وقت تحاول رباعية العدوان الحفاظ على خارطة التقسيم التي رسمت بسلاح الغرب وأموال النفط ودماء اليمنيين، بفصل المحافظات الجنوبية والشرقية وجزء من الساحل الغربي عن صنعاء، وجيشت في سبيل ذلك ميلشيات متعدّدة الولاءات، لتمكين الطامع والغازي والمحتل الأجنبي في المحافظات المشاطئة للبحار ومضيق باب المندب والعائمة على ثروات هائلة من النفط والغاز والمعادن. في مقابل ذلك، فإن لصنعاء أيضاً استراتيجيتها المعلنة، وبسقف أعلى ما تتوقعه دول العدوان والاحتلال والحصار التي تتوهم بأن استراتيجيتها في التفتيت والتقسيم والهيمنة ثابتة لن تتغير.
إنَّ استراتيجية صنعاء عسكرياً تمضي في مسارين: استمرار عمليات التصدي واستكمال عمليات التحرير الشامل. وقد تجسَّدت هذه الاستراتيجية في خطاب الثاني من أيلول/سبتمبر على لسان السيد عبد الملك بأنَّ اليمنيين “سيحررون كل البلاد، ويستعيدون كلّ المناطق التي احتلّها الأعداء، من أجل أن يخضعوها للأميركي والبريطاني والإسرائيلي”، وأن اليمنيين سيكونون “حاضرين للتكامل مع كلِّ أحرار أمتنا في كلِّ قضايا أمتنا الكبرى”. بهذه العبارات التي جاءت في سياق خطاب لا يتجاوز نصف ساعة، وجّهت صنعاء إلى رباعية العدوان رسائل قوية وبغاية الأهميّة يمكن إجمالها على النحو التالي:
– معارك التحرير والتصدي لن تقف عند حدود مأرب، بل تتعداها إلى المهرة وحضرموت وباب المندب وسقطرى، بعض النظر عن الإمكانيات والآليات والتوقيت.
– لا أفق سياسياً للحلّ في ظلّ تغلغل وهيمنة واحتلال القوى الأجنبية الأميركية والبريطانية والسعودية والإماراتية للمحافظات النفطية والاستراتيجية، مع فارق التراتبية في الأدوار بين الأصلاء الغربيين والوكلاء الخليجيين والعملاء اليمنيين.
– إنّ مسألة تحجيم نفوذ صنعاء وتطويقها وحرمانها من مقدّراتها وفصلها عن المحافظات النفطية والمواقع الاستراتيجية – وفق الاستراتيجية الأميركية – أمر مرفوض وغير مقبول.
– إنّ مساعي إعادة العملاء والخونة إلى صدارة المشهد اليمني وإعادة الوصاية الأجنبية على اليمن سياسياً وسيادياً أمر شبه مستحيل.
– لا يمكن فصل اليمن بالقوة العسكرية المفرطة والعقوبات القاسية عن القضايا الكبرى، وعلى رأسها فلسطين ومحور المقاومة، ولا بد من أن يكون اليمن بلداً حراً مستقلاً وله دوره على مستوى الإقليم.
– إنّ اليمن، مهما كانت التحديات، حاضر للتكامل مع كل أحرار أمتنا في كلِّ قضايا أمتنا الكبرى.
– جاءت عملية توازن الردع السابعة لتتوج هذه الرسائل مجتمعة، وتؤكّد استمرار مسار التصدي، ولتعزّز حقيقة أنّ الحرب بين اليمن وأطراف خارجيّة، وليست حرباً أهليّة، كما يصوّرها المجتمع الدولي، إلى جانب كونها عملية مشروعة وفي سياقها الطبيعي للردّ على الغارات والحصار.
وهنا، يجب الالتفات إلى أنَّ هذه الرسائل السياسية والعسكرية والاستراتيجية جاءت بالتزامن مع المعارك الميدانية في مأرب، والتي تمكّنت فيها طلائع صنعاء من السيطرة على مديرية رحبة وتحريرها، وبعد أسابيع من إرسال بريطانيا دفعة عسكرية جديدة إلى المهرة، وسبقها وتزامن معها ضربات تحت الحزام في أكثر من اتجاه.
وفي التوقيت السياسي، فإنَّها جاءت بعد حديث الرئيس الأميركي جو بايدن في خطاب الهزيمة عقب الانسحاب الأميركيّ والأطلسي من أفغانستان عن “تمدّد خطر الإرهاب إلى ما بعد أفغانستان”، ومزاعمه عن “مخاطر في الصومال وسوريا وشبه الجزيرة العربية”، في إشارة إلى اليمن، وبما يمهّد لحضور أميركي أوسع تحت مبرر “مواجهة القاعدة” و”محاربة الإرهاب”، وكأن هناك استراتيجية أميركية وانعطافة جديدة نحو اليمن والقرن الأفريقي على الضفة الأخرى من باب المندب، فجاءت رسائل صنعاء لتستبق هذا التوجه، وتقول للأميركي عملياً بأن لا يفكّر في التورط المباشر أكثر في فيتنام أو أفغانستان جديدة، فاليمن أيضاً مقبرة للغزاة.
كما أنَّ الرسائل جاءت متزامنة مع مباشرة المبعوث الأممي الجديد هانس جرانبرغ مهامه، وبما توحي بأنّ صنعاء غير مستعدة للتنازل عن رفع الحصار، ووقف العدوان، وسحب قوات الاحتلال الأجنبي، وإعادة الإعمار، وجبر الضّرر، ودفع التعويضات.